ثم يضيف:
(فكنت وأنا صغير أركب الفرس وأقتحم به الموج ناحية القسطنطينية، متخيلًا يومًا أقود فيه الجيوش لفتحها .. إلى أن كان..!).
عزيزي المربي..
من الذي زرع هذا الهدف الكبير بقلب السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى؟
إنها كلمات الأم الإيجابية التي حركت مشاعره وألهبت حماسه، وعرفته بنفسه بطلًا منذ أن وعى .. فصار كذلك.
إنَّ ما يسمعه الطفل عن نفسه هو ما يصبح عليه في المستقبل، وهذه حقيقة تربوية على مستوى البشر أجمعين، فالكلمات لها تأثير فعَّال وهائل، لأن كل كلمة أو عبارة تحمل للطفل رسالة عن نفسه وعن علاقته بالعالم الخارجي، ومع الوقت والتكرار تصبح اعتقادًا راسخًا وحقيقة بداخله يبرمج نفسه عليها.
وبالفعل قد تحول كلام الأب أو الأم أو المدرس إلى نبوءة يعمل الطفل على تحقيقها في أرض الواقع، ويدفع نفسه لا شعوريًا للتماشي معها.
ولأن الكلام لا ينقطع بين المربي وأبنائه على مدار اليوم والليلة لسنوات ممتدة، كان علينا أن نقف قليلًا لنراجع معًا مفردات خطابنا اليومي للأبناء .. في أي الاتجاهات تسير، وما هي الرسائل التي توصلها لهم؟
لقد أسفرت إحدى الدراسات التربوية بهذا الشأن عن نتيجة مؤلمة؛ إذ تقول:
“إنَّ الفرد ما إن يصل إلى سنِّ المراهقة، يسمع ما لا يقل عن 6000 كلمة سيئة، مقابل بضع مئات من الكلمات الحسنة أو الطيبة”..![كريم الشاذلي: الآن أنت أب، ص:101].
ولأن الصورة التي يرسمها الطفل عن نفسه هي نتيجة كلماتنا عنه؛ كان لنا أن نبين هذه الومضات التربوية في الطريقة المثلى لمخاطبة الأبناء بشكل إيجابي وبنَّاء:
– خاطبهم على قدر عقولهم:
ففي مدرسة النبوة نتعلم أن مخاطبة الأبناء في حدود إمكاناتهم ومستواهم العقلي، يعد الجانب التطبيقي لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في مخاطبة الناس عمومًا، على اختلاف طبقاتهم في الفهم والإدراك، وفي مخاطبة الصغار بشكل يتناسب مع مداركهم التي لا تزال في بواكيرها، ولقد أشار الإمام الغزالي رحمه الله تعالى إلى تلك القاعدة التربوية بقوله:
(ويقتصر المعلم بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره) [د.محمد بدري: اللمسة الإنسانية، ص470، بتصرف].
كما أن كل من الأبناء يحتاج إلى لغة الخطاب التي تتفق مع عمره، ومستواه العقلي والإدراكي، والمرحلة التي يمر بها، ومن ذلك أيضًا أن يلتزم بالخط اللغوي الذي يستوعبه الابن، ولا يتحدث معه بلغة ذات أبعاد ومعان بعيدة لم يصل إليها بأفكاره بعد، ولم يستوعب معانيها، فالإجابة على أسئلة الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة وحواراتهم مع والديهم تختلف لغة الخطاب فيها تمامًا عن حوارات المراهقين الأقرب إلى الجدال والمماراة، وهكذا لكل مقام مقال.
قلل من الأوامر والنواهي:
كثرة إلقاء الأوامر تساعد على تكون المقاومة لدى الطفل، فطفلك مثلك تمامًا لا يحب الأوامر الكثيرة المتتالية والتي تحد من حريته، وتؤدي به إلى العصيان والتمرد.
ولو أننا راقبنا ألفاظنا يومًا واحدًا؛ لوجدنا أن أسلوب الأمر يحتل الغالبية العظمى من مفردات حديثنا مع الطفل، وهو ما لا يساعد في بناء شخصيته بناءًا متوازنًا سليمًا[كريم الشاذلي: الآن أنت أب،ص:117].
فلتكن تلك الأوامر على شكل اقتراح أو طلب، من خلال جمل قصيرة وإيجابية، فبدلًا من:
(لا ترم كتبك ـ توقف عن الإهمال والفوضى) تقول بحزم: (الكتب مكانها فوق الرف).
تكلم بوضوح ولا تعمم:
تفشل الإرشادات إذا كانت غير واضحة للطفل، يكتنفها التعميم والغموض، فمثلًا إذا قلت لولدك وقد تناثرت لعبه في أرجاء حجرته: “لا تترك لعبك هكذا”، فماذا عساه أن يفهم من هذه العبارة؟ قد لا يفهم ما الذي عليه أن يفعله، وبالتالي سيحجم عن فعل أي شيء، بينما لو كانت العبارة:
“اجمع لعبك، وضعها في السلة المخصصة لها”.
فقد توصل هذه العبارة أمرًا واضحًا للطفل، يمكنه أن يقوم به.
وقولك: “اذهب ونظِّف غرفتك”.. هذه الجملة قد يتبعها التقصير من الصغير، بخلاف قولك:
“اذهب وضع ملابسك في الدولاب، واللعاب في الصندوق، والكتب في المكتبة، ثم اجمع المهملات من على الأرض وضعها في سلة القمامة”.
وهكذا فالعموميات في الألفاظ لا يفهمها الطفل؛ لأنها تعطيه توجيهات غير دقيقة.
اختصر.. فخير الكلام ما قل ودلَّ:
لا يتحمل الطفل أن يتلقى باستمرار محاضرات كلامية لا تجدي نفعًا، خاصة في حالة تعليمه سلوك أخلاقي، فغرس السلوك الحسن له أساليب فعَّالة سوى الكلام، إذ لا تمثل الكلمات سوى 7% من عملية الاتصال، بينما تمثل نبرة الصوت 38%، في حين تمثل حركات الجسم وتعبيرات الوجه 55%.
كذلك فإنَّ مدة تركيز الطفل بشكل متواصل = عمر الطفل+ دقيقتين، وهذا يعني أن طفل الخامسة يستطيع أن يركز لمدة سبع دقائق متصلة، لذلك يحسن بك ـ عزيزي المربي ـ مراعاة قلة الكلام وانتقاء الألفاظ عند توجيه الطفل، مع الاهتمام بالإيماءات ونبرة الصوت والإشارات والحركات [محمد سعيد مرسي: كيف تكون أحسن مربي في العالم؟ ،ص:119].
غيِّر من نغمة صوتك:
فصوتك أداة فعَّالة، وتنوع النبرات الصوتية حسب الانفعال النفسي، من معجزات الله سبحانه في جانب البيان الإنساني .
بل قد يكون صوت الإنسان من أهم وسائل التعبير عما يريد، وتراوح نغمة الصوت بين الارتفاع والانخفاض، والانحباس والانطلاق، والسرعة والبطء في الأداء، والرقة والفخامة، يؤدي إلى توصيل المعاني بشكل صحيح.
وقد يفلح تغيير مستوى الصوت في توقف المشاغبة أو إلزام الطفل بفعل ما تريد، [عمرو أبوليلة – نسيبة أحمد: حتى لا يتحول طفلك من امبراطور إلى ضفدعة، ص:55].
لا لعسف الأوامر:
ونقصد هنا الأسلوب الخطابي الذي يحتوي على ألفاظ متعسفة، ويتضمن إملاء الأوامر على مسامع الطفل بأسلوب ينتهره، ولا يقبل منه مناقشة تلك الأوامر، كما يخلو عادةً هذا الأسلوب من احترام رغبات الطفل، ولا يمنحه اختيارات بل يلزمه بتنفيذ رغبات الوالدين فقط، وعلى الفور، وبدون مناقشة، مع التهديد والتلويح بالعقاب إذا حدث ثمة تأخير، مثل: “انتبه، اسكت، امنع الصوت، اخفض صوتك، لا تتحرك، اذهب لغرفتك، اذهب الآن للبقالة واحضر الطلبات،….” وهكذا.
إن أقل الأضرار التي تسببها الأوامر الصارمة والأساليب التسلطية، هي إصابة الطفل بالخوف بسبب شعوره الدائم بالإحباط والفشل، وعدم ثقته بنفسه، وعجزه عن تأكيد ذاته [زهرة عاطفة زكريا: التربية الخاطئة وعواقبها، ص:56].
كيف تنقدهم؟
بين رأيك بوضوح في أبنائك، فإنهم يحبون الاستماع إلى تقويمك لهم، ومدى رضاك عنهم وعن إنجازاتهم في الدراسة والأعمال المنزلية، وأسلوبهم في الكلام والمظهر والهندام، وهذه فرصة جيدة للإطراء والمدح والافتخار إذا أحسن الأبناء، فيكون الأمر صريحًا معلنًا بصورة تتناسب مع حجم العمل المنجز.
وفي حال عدم الإعجاب بما قدموه اليوم، فلا بأس من أن تعطي رأيك بصراحة، ولكن بأسلوب هيِّن ليِّن .. لا يحطم محاولات الأبناء ويقدم لهم البدائل؛ كي يشعر الأبناء بمدى قربك منهم، ودرايتك بهم، ومتابعتك لأعمالهم، فيزيدهم هذا الأسلوب حماسًا وجهدًا وإنتاجًا.
مع ملاحظة أنه لكي يكون النقد بنَّاءًا؛ يجب أن يكون بعيدًا عن الفضيحة والتشهير إن كان يتعلق بأمر سلبي، وأما إذا كان من قبيل الإطراء وذكر محاسن الأبناء، فيكون معلنًا [د.محمد فهد الثويني: كيف تكونا أبوين محبوبين؟، ص:13].
لا للتهديد:
(اسكت وإلا أحضرت لك البوليس، اذهب لتنام أو أحبسك في حجرة الفئران.. !)
كثيرًا ما تنطلق عبارات التهديد من فم الوالدين موجهة للأبناء، محاولين بذلك حجزهم عن ارتكاب خطأ ما، على حين يعتبر التهديد المستمر وسيلة تربوية تعلن عن فشلها، فالمربي الذي يظل طوال اليوم يهدد ويتوعد، إنما يعبر بذلك عن ضعف شخصيته وهذه هى الفكرة التي تنطبع حتمًا في ذهن الأبناء عنه.
كما أن التهديدات العنيفة التي تنطلق نارية في لحظات الغضب، تحدث نتائج عكسية تمامًا، فهي تجعل الطفل لا يعبأ بها، بل ويتجاهل مصدرها، لأنه سرعان ما يدرك أن تلك التهديدات غير جادة، وأن شيئًا منها لن يحدث.
زيِّن عباراتك:
زيِّن كلامك وألفاظك وعباراتك، وكل ما يصدر من فمك لأبنائك بألفاظ تعبر بصراحة عن عظيم حبك لهم، وتقديرك لذواتهم، وأنك تشتاق إليهم إذا غبت عنهم، فالكلمة الطيبة صدقة، ولها أثر كبير على نفسية الأبناء وتعلقهم بالوالدين، فكن أبًا رحيمًا لا يهجر الحب قلبه، صاحب قلب معطاء ومحب بلا شروط.
وأخيرًا .. عزيزي المربي .. كن هادئًا
فكلما كان صوتك هادئًا كان طفلك أسرع في الفهم والقبول، وكلما كان الإرشاد رفيقًا، حصلنا من أبنائنا على ما نريد من السلوك الجيد، وأشعرناهم بالخجل من تصرفهم الخطأ.
المراجع:
– اللمسة الإنسانية: د.محمد بدري.
– كيف تكون أحسن مربي في العالم؟: محمد سعيد مرسي.
– التربية الخاطئة وعواقبها: زهرة عاطفة زكريا.
– كيف تكونا أبوين محبوبين؟: د.محمد فهد الثويني.
– تربية الأولاد بين الإفراط والتفريط: صالح بن عبد الله العثيم.
– حتى لا يتحول طفلك من امبراطور إلى ضفدعة: عمرو أبو ليلة – نسيبة أحمد.
– الآن أنت أب: كريم الشاذلي.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.