القاهرة: محمود خليل ( مجلة المجتمع الكويتية )
إذا كانت مسيرة الأدب والفكر والثقافة العربية، كثيراً ما تتنكر لبعض روادها الكبار، لا سيمافي الآونة الأخيرة التي تشهد فيها ثقافتنا تقهقراً مزرياً، وتراجعاً مخيفاً، فإن أدبنا الإسلامي لا يمكن بحال أن يكون ذلك الشاهد المزيف، فضلاً عن أن يقف يوماً موقف الشاهد الأخرس..
نقف اليوم مع “قيثارة التوحيد”.. عبدالله شمس الدين، في ذكراه التاسعة والعشرين، بعد أن أمضى حياته مجاهداً مجالداً “للأرقاء البيض، الذين تحولوا إلى سوط عذاب يلهبون به ظهور الأمة”.
ولد شاعر التوحيد بالقاهرة عام 1921، وفيها نشأ على بساط الإيمان حيث حفظ القرآن الكريم في صباه، والتحق دارساً محباً بأروقة الأزهر الشريف، ولكنه لم يكمل تعليمه لظروف عائلية، فعمل مصححاً للغة العربية، ثم عمل مستشاراً ثقافياً بالمجلس الأعلى للشبان المسلمين، وهكذا فرض شاعر التوحيد الذي هز الدنيا بنشيده “الله أكبر” نفسه على جائزة الدولة.. بكلماته التي كان يصوغها من ذوب قلبه قريضاً كحبات الماس.مشاهد ومواقففي غمرة فرحة الوحدة المصرية السورية عام 1959م، كان مقرراً ل”ندوة شعراء العروبة”، أن تعقد مؤتمرها في دمشق في تلك الليلة.. وعملت الشيوعية الحمراء عملها، بتدبير مكيدة بغيضة بتجاهل دعوة رئيس ندوة شعراء العروبة عبدالله شمس الدين، حتى لا يُسمع للإسلام صوت ولا صدى في هذا المؤتمر.. وتقررت بداية المؤتمر برئاسة الوزير كمال الدين حسين الذي كان حينئذ وزيراً لمعارف الوحدة، ووجد أن نشيد “الله أكبر” هو نشيد الافتتاح، فسأل في أدب: هل يمكنني مقابلة الأستاذ عبدالله شمس الدين قبل افتتاح المؤتمر؟
فقيل له: لم يحضر من القاهرة!!
قال: ألم توجه إليه الدعوة؟
فأجيب بالأسف.. والاعتذار.
فقال كمال الدين حسين: أهذا وفاء للعروبة والشعر والإسلام والأدب العربي؟؟؟
فليتأجل افتتاح المؤتمر حتى يحضر عبدالله شمس الدين!!
وعلى الفور، صدرت التعليمات بأن تخصص طائرة حربية لسفر شاعر التوحيد، من القاهرة إلى دمشق،…!! وعقب وصوله، استقبله السيد كمال الدين حسين محيياً، مرحباً، ومعتذراً.. وعند اللحظة الأولى لبدء المؤتمر عزفت الموسيقى مقدمة “الله أكبر”.. ووقف كمال الدين حسين وبجواره فقط عبدالله شمس الدين، على منصة المؤتمر.. ووقف كل الحضور يرددون “الله أكبر”…
الله أكبر فوق كيد المعتدي
والله للمظلوم خير مؤيد
أنا باليقين وبالسلاح سأفتدي
بلدي ونور الحق يسطع في يدي
يقول الفنان محمود الشريف: “أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، بثت إذاعة إسرائيل بعض البيانات الإرهابية للمصريين، ومن بينها بيان بضرورة إخلاء منطقة المنيل التي أسكن بها، لأنها ستضرب بالقنابل، وفوجئت بي أقول: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر فوق كيد المعتدي.. واتصلت بالشاعر الكبير عبدالله شمس الدين، ليكمل كلمات النشيد.. فأخذه الحماس، وظلت كلماته تتوالى كطلقات الرصاص وكلما أكمل مقطعاً.. اتصل بي وأملاه عليّ.. حتى اكتمل النشيد عند الفجر.. شعراً ولحناً…”.
حتماً سيعود الإسلام
ودار الزمان.. وحلّ الربيع من عام 1977م. وأطلق عبدالله شمس الدين زئيره من فوق منبر المؤتمر العالمي للشباب في ليبيا بقصيدته المجلجلة “حتماً سيعود الإسلام”:
كل الأكوان له مسجد
الله يُسبح ويمْجد
من نوح للنور محمد
الكل يهلل ويوحد
إلى أن يقول:
يا أهل الأرض وذا أمل
يمليه عليَّ الإلهام
ستعود القدس لنا حتماً
حتماً سيعود الإسلام
ستهب من القدس رياح
تردي الطغيان الشرقيا
وتهب مع النصر بطاح
تطوي المكر الصهيونيا
فهل كان عبدالله شمس الدين ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.. ليرى ما آلت إليه ثورة الفاتح.. التي باع أصحابها “الجمل وما حمل!! وليشهد السقوط المزري للإمبراطورية السوفييتية فيما بين (1988 1991م) ، أو ليطل على الطير الأبابيل في انتفاضتي الأقصى عامي 1987 و2000م؟!!
إنه الشاعر المسلم.. الذي يؤمن أنّ الكلمة الطيبة إلهام، وأنّ إلهام الشاعر المسلم لا يأتي إلا من وحي النور.
ويومها.. اهتز المنبر.. واهتز المؤتمر.. الذي كان مدبراً قبيل انعقاده، ألا يذهب إليه عبدالله شمس الدين.
ويومها.. من عام 1956م.. يتلقى عبدالله شمس الدين مئات الرسائل من التهاني والتقدير والإعجاب.. ومن بينها رسالة حملها إليه البريد من الأمير الشاعر “صقر بن سلطان القاسمي” حاكم الشارقة.. يقول لها فيها:
يا شاعر الله أكبر
سموت لحناً ومخبر
خلدت فيه كفاحاً
مازال يعلو ويظهر
هذا النشيد حسام
ما زال بالحق يشهر
قد صار رمز انتصار
لكل شعب تحرر
إنها الكلمة الصادقة.. حين يهتف صاحبها، فلا يكتفي بقوله: “يسقط العالم”.. ولكنه يردف: “وأنا سأبنيه أفضل”.
على باب الملك
لقد سبح عبدالله شمس الدين في كل ما أبدع في بحار النور، ووقف على باب الملك، وتغنى بحب الحبيب صلى الله عليه وسلم، فكان صورة صادقة للشاعر المسلم، الذي أطال الابتهال، وطرق أبواب الرجاء، وتأمل النفس، وخاض بحار المجاهَدات، وسلك سبل السلام، وترقى في مدارج السالكين إلى ملكوت رب العالمين.. وكان واحداً من شعراء النفس الذين أطالوا تأملها وعالجوا أحوالها، بناء على علم وثيق وإشراق رفيق.. مدركاً أن التذلل مفتاح القبول:
بأيّ ثوب عليه أدخل
وكل ما أرتدي مهلهل
فليس عندي لباس تقوى
ولا صلاح ولا تبتل
وأنت يا مالكي عليم
بكل ما فيّ من تذلل
فإن تدعني ! فمن يُراعي
مثلي.. عُبيداً أتاك أعزل؟
وعاش شاعرنا عمره وإبداعه وهو حرب على الإلحاد والملحدين، وثورة عارمة على فكر العلمانيين الذين كان يسميهم “أطفال الخيال”.. وضاق بما عج به صدر الشعر الحديث من ظلاميات هؤلاء السكارى بطيش الإلحاد فخرج على الكون، يقرأ تسابيح الضياء، فيما أبدع الملك.
سل الواحة الخضراء والماء جاريا
وهذي الفيافي والجبال الرواسيا
سل الروض مزدانا سل الزهر والندى
سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما
وسل كل شيء تسمع الحمد ساريا
ولو جن هذا الليل وامتد سرمدا
فمن غير ربي يُرجع الصبح ثانيا؟
وعلى الرغم من أن حياة شاعرنا كانت سلسلة متواصلة من الحرمان، إلا أنّه كان دائم التأسي بالعبارة الخالدة لأديب الإسلام الكبير مصطفى صادق الرافعي (1880 1937) التي يقول فيها: “لابد على هذه الأرض من ضوء في لحم ودم” فأراد أن يكونه… وكان يعزي نفسه في محراب الضياء..
إيه يا شمس اليقين
ادخلي القلب الحزين
بددي ليل الظنون
وانشري صبح الصفاء
@@@
أنا في ليل حياتي
نجمة حيرى شريدة
أجهدتني سبحاتي
في متاهاتي البعيدة
أرقب الفجر بأفقي
بانطلاقاتي وشوقي
فاطلعي شمس ودقي
باب قلبي بالضياء
وكانت معظم تسابيحه دمعات على المحراب.. وطرقات على الأبواب.. وفي همسات السحر.. تراه يناجي الجليل:
ثقل العبء يا إلهي عليا
وتهاوت عزيمتي من يديا
أنا عبد، وليس للعبد حول
ومن الضعف قد بلغت عتيا
أنت أدري بما أعاني من الهم
ولم أدخر من الجهد شيا
غير أني إلى حنانك أهفو
إنني من عطائك الجم أحيا
كل باب لديَّ قد سُدّ إلا
بابك الرحب لن يسد لديا
فكان يرى نفسه في مهرجان الروح، وأفراح الرجاء، التي رددها معه العابدون، في ابتهالاته الرمضانية التي تغنى بها سيد المنشدين الشيخ سيد النقشبندي:
أمل على شفة المنى يتردد
يا مهرجان النور أنت الموعد
يا مجمع الأرواح فيك تشوقت
لصفائها، وهفا إليك المسجد
وبكل عاطفة ترن سكينة
صمدية، وبشائر تتجدد
من كل مئذنة تضيء، وقبلة
حيّاك تكبير بها، وتشهد
وعلى خطى حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وابن رواحة، وابن الفارض، وشوقي، وفي صحبة محمود جبر والباقوري والجرنوسي.. تغنى كثيراً بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم.. هاتفاً في يوم مولده:
يا نور يوم ولدت قامت عزة
للأرض إذ أمست لنورك تنتمي
الكوكب الأرضي حين وطئته
أمسى حصاه يتيه فوق الأنجم
سعدت بك الدنيا على فزعاتها
ومشت بك الأيام مشي مكرم
وتنفس الفجر الكبير وقد سرت
قبساته في كل ركن مظلم
ودعا.. فكان الله عند دعائه
يا هذه الدنيا قعي واستسلمي
وامضي وراء محمد وكفى به
ألقاً يضيء هدى لكل ميمم
نجوى الوداع
رحم الله عبدالله شمس الدين الذي، ظل يردد ألحان الروح هاتفاً..
يا نفس لاح مشيبي
يا نفس بالله توبي
ماذا تريدين مني
وقد رأيت شحوبي
أتيت للأرض وحدي
على جناح العيوب
وسوف أرحل عنها
وحدي كضيف غريب
وسوف تشرق شمس
على ضفاف غروبي
ومن جديد سأحيا
حياة شاد طروب
وعلى ضفاف الغروب، ظل شمس الدين يردد هذه التسابيح، ويهتف بهذه الابتهالات المضيئة.. حتى غادر دنيانا، مع فجر الثالث عشر من مارس 1977م، بعد عودته من المؤتمر العالمي للشباب بليبيا، بأيام قلائل.. ليظل صداه نغماً طهوراً تلهج به أرواح المؤمنين على طريق الكلمة الطيبة للأدب الإسلامي الفيّاض.