“فواز”، ذاكم الشاب ذو التسعة عشر ربيعاً، ذو نظرات ثاقبة وأدب جم، صاحب خلق وجد، يدرس في المستوى الثاني قسم اللغة الانجليزية وكان طالبا نابهاً، وكنت أدرسهم مادة “مهارات التفكير”.
كان من ضمن موضوعات المقرر “مهارة حل المشكلات” والتي تدور حول الإحساس بالمشكلة، وتحديدها، وجمع بياناتها، وتبويب البيانات، ومعرفة الأشخاص الذين لهم علاقة بها، ثم وضع الحلول المتعددة والبدء بالأسهل، ثم التطبيق، وأخيراً التقييم، مع التأكيد على أهمية الدقة والموضوعية، وأنّ المشكلة إذا كانت كبيرة يجزأ حلها، أيضا إمكانية حل أي مشكلة، فليس ثمة مستحيل سوى الموت والهرم.
كان من ضمن أسلوب حل المشكلات
ملحظ حيوي جداً، وهو أنّه أثناء السعي لحل المشكلة، لا بد للشخص من الشعور بأنه جزء من المشكلة حتى يتحمل جزءًا من الحل.، ومن هنا تبدأ القصّة!
كنتُ أعطي الطلاب على أيّ موضوع تطبيقاً، وكان ذلك بالنسبة لي ولهم كامتحان أعمال السنة، وفعلاً أبدعوا ورأيت منهم انتباهاً واهتماماً وتغيراً إيجابياً ومشاركة في القاعة وفي أسرهم وفي مجتمعهم؛ من هؤلاء كان الطالب “فواز”، كلماتنا في المحاضرة أثارته، وحفزته، وبدأ يفكر ويتأمل.. نعم؛ وبدأ يحكي قصته:
أبي وأمي شبه منفصلين وهما في بيت واحد، الشجار ديدنهما، يدخل أبي البيت بعد عمله مجهداً، وأمي مشغولة بإخوتي أو بإعداد الطعام أو نظافة البيت، فليس الوضع مهيأ، ينزعج جداً فيرفع الصوت، فتغضب أمي، ثم يبدأ الصخب والسباب، نحن في البيت عددنا كبير، أنا في الجامعة، أختي في الثانوية، إخوة لي في المتوسط والابتدائي، وجميعنا نشاهد ذلك الصخب، فينقلب ألما في نفوسنا وبكاء في عيوننا، تطور الأمر حتى طلق أبي أمي مرتين ولم يبق سوى الأخيرة، تطور الشقاق وأصبح أبي يتناول حبوب الاكتئاب، ولا يحب الجلوس في البيت، أمي معظم الوقت متضايقة ومتوترة.
يقول: لما أخذت مهارات التفكير وأهميتها وعظمتها وكيف أهملناها! وبدأت أمارس التفكير الناقد، والتفكير الإبداعي، فعلاً أحسست بأني كنت مهملاً نفسي وحياتي، وكيف بلغت بي السلبية إلى عدم وجود أي أثر أو مشاركة لي في البيت، فقط أدرس، آكل، أشرب، أنام، وقد ألعب مع إخواني، ولي طلعات مع أصدقائي! اختي مثلي كذلك. كلانا نعزف نغم السلبية في بيتنا..
يقول فواز: ولما مررنا على “استراتيجيات” حل المشكلات،، وطبقت ومارست، عرفت كم أنا مقصر مع نفسي وأبي وأمي، كنت أتصور أن المهمات والمسؤوليات على أبي وأمي فقط، أما نحن فلا، وقد حركني تجاههما أمران قلتهما يا دكتور، إذا احسست بمشكلة حولك فلن تحلها حتى تحس بأنك جزء من المشكلة والحل، والأمر الآخر أنه لا شيء مستحيل، هنا فعلاً فكرت لماذا أنقد والدي ووالدتي ولم أنقد نفسي! أين دوري؟ ثم فكرت بأسباب المشكلة، فوجدت من أبرزها؛ أن هناك ضغطاً جسدياً ونفسياً على الوالدين؛ فالأب يعمل في الصباح حتى قبيل العصر؛ ثم يأتي مجهدا فيتابع البيت ومتطلباته، ومتابعتنا تعليمياً وتربوياً إضافة إلى مهام الأسرة والأقارب..الخ، لاحظت أن أبي لديه ١٤ مهمة، وأمي لديها مثلها في البيت، وأنا وأختي لا نشارك إطلاقاً، فوضعت خطة لتحمل أربع مهام من مهام والدي، المشتريات، متابعة دروس أخي الصغير، القيام “بمشاوير” الوالدة، إضافة الى إحداث جلسة للأسرة في بعض المغربيات أديرها أنا وفيها سوالف وفوائد وطرائف.
أيضا أختي ناقشتها واقتنعت بإعانة أمي، فتقوم بأربع مسؤوليات؛ تقوم بالإشراف على سفرة الطعام تقديما وتنظيفا، تعين في تنظيف البيت، تشرف على نظافة أختي الصغيرة، وتدرس أختي الصغيرة الأخرى، بقينا ننفذ ذلك لمدة شهر، لاحظت تغيراً واضحاً في نفسية الوالد، أمي هدأت أكثر، نحن بدأنا نحس بدورنا في البيت.. وغاب ٦٠٪ من المشكلة!
قلت: حقيقة أعجبت بهذه المبادرة والذكاء من فواز فحفزته، وشجعته، وحثثته على شكر أخته وأن يعطيها هدية كحافز، بعد ذلك اقترحت عليه أن يطلب من أبيه طلبا والمهمة نفسها تقوم بها أخته؛ وهو أن يعطيا والديهما “إجازة الوالدين من الأسرة” بحيث يطلبان منهما أخذ اجازة ويذهبان بمفردهما إلى مكان في السعودية، أو خارجها لمدة ثلاثة أيام وينسيان هموم البيت والأسرة والأولاد ليستجما ويرتاحا، ثم يعودا أكثر نشاطاً، وقلت له ربما يرفض الوالدان من باب الخوف
عليكما فجهز حلاً مناسباً، وهو تذهبان لبيت جدك وجدتك يوما، واليوم الآخر تأتي جدتك إليكم، وفعلا فواز وأخته نظما الأمر واختارا وقتاً مناسباً، وهيآ الوضع، وطلبا من والديهما أن يرتاحا عدة أيام ليجددا الحياة! في أول الأمر رفضا خوفاً عليهما من تركهما وحدهما – وحياء ربما – ولكنهما في الأخير اقتنعا، وفي الأسبوع الذي يليه حزما حقائبهما وسافرا ظهر الأربعاء، ولم يرجعا إلا العاشرة ليلة السبت، وكان بينهما وأولادهما الهاتف،، قال لي فواز وهو يضحك: رجع والداي والله كعروسين، ووجه أمي ينضح بالبشر والارتواء كأنها عروسة اللحظة!! أما أبي فلقد كان سعيداً مطمئناً غاب حزنه وترك الحبوب النفسية،، وعند دخوله ضمني وقبلني ثم بكى وقال: يا حبيبي يا فواز، كان حقا علي أن أزوجك، فإذا بك أنت من يزوجني!! كان لزاماً علي أن أبني سعادة بيتنا فإذا بك أنت وأختك من يمد قلبي وقلب أمك بالحب والحنان بعدما كاد ينكسر الزجاج، وينثلم الفؤاد،، يا بني علمتني أنت أن الحياة نحن من يصنعها في دواخلنا، علمتني بذكائك ولباقتك، أن المشاركة للكل راحة للكل، وأن المركزية تقتل سعادة المرء، فهو متعب دائماً والناس معه متعبون، والآن شاركتم وبادرتم وريحتم. انتهى!
كتب ذلك كله لي “فواز” وقال لي: يا دكتور الكثير لقد غابت المشكلة كلها تقريبا، لكن لأول مرة أدرس العلم تطبيقا، هنا يا أحبابي أرغمني “فواز” أن أعطيه الدرجة كاملة، بل لو استطعت أن أعطيه شهادة التخصص إجلالا له وإكبارا،، لفعلت! الا تتفقون معي أنه يستحق ذلك؟! ..
وإلى لقاء قادم ..
ليطبقها الأولاد؟
المصدر : اليوم السعودية 25-1-2014