مقال د. وليـد أحمد فتيحي
نشرت بجريدة عكاظ اليوم
الثلاثاء 11 نوفمبر 2008م
أَتحج هذا العام أم لا؟
كتبت قبل عام تقريباً بتاريخ 24 ذوالقعدة 1428هـ – الموافق 4 ديسمبر 2007م، مقالاً بعنوان “أأحج هذا العام أم لا؟”.
بدأت مقالي بالتحدث عن الحوار الذي يدور في خلدي كل عام، وأسائل فيه نفسي أأحج هذا العام وقد حججت مرات عديدة أم اترك المجال لغيري؟.. وأسأل نفسي أيهما أولى وأبر عند الله؟..
فكتبت قائلاً “إن الله فرض الحج علينا مرة في العمر لحكمة إلهية، وقد يكون من حكمة ذلك محدودية المكان والزمان، فاذا افترضنا أن معدل الحجاج سنوياً 2 مليون حاج، وسنوات العمر التي يستطيع فيها الإنسان القيام بهذا الركن ما بين سن العشرين والسبعين أي حوالي 50 سنة، وبعملية حسابيه بسيطة نجد أنه بإستمرار هذا المعدل لن يستطيع أن يحج سوى مائة مليون مسلم فقط خلال خمسين عاماً، وإذا كان عدد المسلمين حوالي ألف وخمسمائة مليون مسلم، وبفرض أن المسلمين لن يزيد عددهم خلال خمسين عاماً (وهذا غير صحيح أيضاً، والغالب انه سيتضاعف باذن الله)، واذا افترضنا ايضاً ان المائة مليون الذين سيحجون خلال خمسين عاماً ليس فيهم من حج أكثر من مرَّة واحدة (وهذا غير صحيح ومخالف للواقع إذ أن مجموعة كبيرة من المسلمين يحجون عشرات المرَّات ومنهم من يحج كل عام)، لو افترضنا كل هذه الفرضيات لتبسيط الحساب لوجدنا أن نسبة المسلمين الذين سيحجون خلال خمسين عاماً تشكل أقل من 7% من مجمل المسلمين أي بمعنى آخر أن 93% من المسملين حول العالم لن يتمكنوا من أداء فريضة الحج – هي أحد أركان الإسلام الخمسة – طوال حياتهم.
أما إذا قمنا بالحساب الصحيح الدقيق وأخذنا بعين الاعتبار ازدياد عدد المسلمين خلال خمسين عاماً، وكذلك عدد المسلمين الذين يحجون مرَّات عديدة، فإن الصورة تصبح أسوأ من ذلك بكثير، ونسبة المسلمين الذين سيموتون دون أن يؤدوا فريضة الحج ستزيد عن 93%.
أليس الأولى أن نطبق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” كم من المسلمين الضعاف في أرجاء المعمورة يحلمون بحج بيت الله الحرام، ويَمنعهم العجز المادي عن القيام بهذا الركن العظيم .. أليس الأولى بمن يحج كل عام أن يحتضن مُسلماً يتكفل بمصاريف حجه كاملة بِنِيَّة مساعدته للقيام بالحج فيكون له الأجر المضاعف، أجر مساعدة مسلم على تأدية حجة العمر، وأجر مماثل له بإذن الله، وأجر إيثاره أخيه على نفسه ويكون لمخالفة هواه ثُقل في ميزان حسناته يضاف إلى ذلك، والله أعلم بما في قلوبكم.
أليس من الأنانية أن لا نفكر في إخواننا وأخواتنا في أقطار المعمورة الذين لا يستطيعون الحج ولا يقدرون على تكاليفه المادية؟.. أم هو انعكاس لمرض أخطر قد استحوذ على عقول وقلوب المسلمين؟..
ليس هذا فحسب بل إن الدولة المخولة بترتيب الحج كل عام قد وضعت قراراً حكيماً بعدم إعطاء رخصة حج لمن حج بيت الله سابقاً إلاَّ بعد 5 سنوات من حجته الأولى إلا إذا كانت الحجة لمرافقة محرم أو أن يكون الحاج رئيساً لبعثة أو طبيباً لها، وفي هذا مرونة كافية لأصحاب الحجة الواضحة، أما أن تحج كل عامٍ على مدى عقود من الزمن ولا تفكر في إخوانك وأخواتك في مشارق الأرض ومغاربها فهذا يحتاج إلى وقفة ومراجعة وتأمل وعمق تفكير في فقه الأولويات، وفيها إضافة لذلك مخالفة لولي الأمر؟..
أليس من حكم الحج وفوائده أن يأتي المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها ليشهدوا منافع لهم، فمكة بمثابة قلب الأمة الإسلامية والعالم كله التي يُضُخ إليها الدماء من أطراف متباعدة من جسد هذه الأمة العظيمة، ومن القلب يذهب إلى الرئتين لِيُنقَّى ويعود ثانية إلى أطراف جسد الأمة، ويضخ ثانية إلى أطراف جسد الأمة الإسلامية ليُعيد لها الحياة … فأين نحن من هذه الحكمة؟..
صراع ونقاش يدور في نفسي في هذا الوقت من كل عام وسؤال أبحث له عن إجابه.
ما الذي يقتضيه فقه الأولويات؟.. وما هو الأولى لمن أكرمهم الله أن يعيشوا في هذه البلاد؟..
أن يحجوا كل عام أو أن يتكفل كل واحد منهم بتكلفة حاج لم يكتب الله له الحج إلى بيت الله نظراً لظروفه المادية؟.. انتهى
وقد قرأ مقالي الدكتور عصام البشير يحفظه الله فكتب لي تعليقاً كلمات من جواهر صاغها في عقد من الحكمة استوجب مني أن أحتفظ بها لأنشرها هذا العام.
قال في تعليقه (للاعمال في نظر الشارع الحكيم مراتب معلومة، ومقامات موسومة تدرك من خلال أحكام التكليف .. التي تتفاوت فيها الدرجات وجوباً وندياً، أو كراهة وحرمة، أو مباحاً يستوي فيها طرفا الفعل والترك .. الأمر الذي يستدعي ضبط موازين الأعمال بقاعدة الأسبقيات .. فلا يقدم ما حقه التأخير، ولا يؤخر ما حقه التقديم، وهو فقه غفل عنه كثير من المسلمين عامتهم وخاصتهم في هذا العصر .. حيث وقع الاختلال في هذا النهج الشرعي السديد .. وقد كان الأقدمون من سلف الأمة الصالح يسبغون أعمالهم على هذا الميزان الدقيق في مراتب التعبد .. حيث ذكر أن عمر بن عبدالعزيز المجدد على رأس المائة الأولى كتب له أحد عماله “تصدق لنا بمال نكسو به الكعبة .. فرد عمر: إني أردت أن أجعل هذا المال في أكباد جائعة فذلك أولى من كسوة الكعبة” .. “كما خرج عبدالله ابن المبارك يبتغي حج نافلة فلقى امرأة تأكل من فتات الطعام، فسأل عن حالها .. فأجابت: إني أرملة أعول أيتاماً لي .. فأخرج ابن المبارك نفقة الحج له ولأصحابه ودفع به إلى تلك المرأة وقال هذا حجنا هذا العام” .. ومؤدي هذا النظر السديد أن الفعل المتعدي بنفعه ثوابه أعظم من فعل يقتصر أثره على ذات الانسان .. فمن تيسر له أداء الفرض الموسوم مرة في العمر .. أولى له وأكبر أن يعني من أصابه عوز حال دون أداء فريضة الحج .. لعدم توافر الاستطاعة، أو كفالة طالب علم أو سد خلة محتاج تعرت عنه الضروريات في حياته .. ومثل ذلك قل في فروض الكفايات .. التي يقتصر مثالها عند الكثيرين على صلاة الجنائز .. وينحسر طرفهم عن جوامع قد تعطلت في حياة الأمة تتصل بنهضتها الصناعية وتقدمها العلمي، وتفوقها التقني، وتنميتها المستدامة، وإقلاعها الحضاري، وغراسها الثقافي، ما أغلط الحجب التي تحول دون إدراك عميق لمقاصد الشريعة المرعية .. ومراتب أحكامها السنية التي أنزلت كل عمل مرتبته على نحو يحقق التوازن في الحقوق والواجبات). انتهى
وانني انهي مقالي بما انهيته في مقالي قبل عام “وانني أظن أن هذا ما يأمله المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من أبناء هذا البلد الكريم، تفعيلاً وتصديقاً وامتثالاً وتطبيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم “والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.