اعلم وفقنا الله وإياك أن العقل نور روحاني تدرك به النفس العلوم النظرية والضرورية ، وأن من خلقه وأبرزه من العدم إلى الوجود ، وزين به العقلاء وأكرمهم به ، أعلم بمكانه الذي جعله فيه من جهلة الفلاسفة الكفرة الخالية قلوبهم من نور سماوي وتعليم إلهي ، وليس أحد بعد الله أعلم بمكان العقل من النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في حقه : { وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى } (النجم : 3-4) ، وقال تعالى عن نفسه : { أءنتم أعلم أم الله } (البقرة : 140) والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كل منها التصريح بكثرة بأن محل العقل القلب ، وكثرة ذلك وتكراره في الوحيين لا يترك احتمالا ولا شكا في ذلك .
وكل نظر عقلي صحيح يستحيل أن يخالف الوحي الصريح ، وسنذكر طرفا من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك ، وطرفا من الأحاديث النبوية ، ثم نبين حجة من خالف الوحي من الفلاسفة ومن تبعهم ، ونوضح الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى .
واعلم أولا : أنه يغلب في الكتاب والسنة إطلاقالقلب وإرادة العقل وذلك أسلوب عربي معروف ، لأن من أساليب اللغة العربية إطلاق المحل وإرادة الحال فيه كعكسه ، والقائلون بالمجاز يسمون ذلك الأسلوب العربي مجازا مرسلا ، ومن علاقات المجاز المرسل عندهم المحلية والحالية كإطلاق القلب وإرادة العقل ، لأن القلب محل العقل ، وكإطلاق النهر الذي هو الشق في الأرض على الماء الجاري فيه كما هو معلوم في محله .
وهذه بعض نصوص الوحيين :
قال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } (الأعراف : 179) فعابهم الله بأنهم لا يفقهون بقلوبهم ، والفقه الذي هو الفهم لا يكون إلا بالعقل ، فدل ذلك على أن القلب محل العقل ، ولو كان الأمر كما زعم الفلاسفة لقاتل : لهم أدمغة لا يفقهون بها .
وقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } (الحج 46) ، ولم يقل فتكون لهم أدمغة يعقلون بها ، ولم يقل : ولكن تعمى الأدمغة التي في الرؤوس . كما ترى ، فقد صرح في آية الحج هذه بأن القلوب هي التي يعقل بها ، وما ذاك إلا لأنها محل العقل كما ترى ، ثم أكد ذلك تأكيدا لا يترك شبهة ولا لبسا فقال : { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } ، فتأمل قوله : { التي في الصدور } تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح ، ومعناه : أن القلوب التي في الصدور هي التي تعمى إذا سلب الله منها نور العقل فلا تميز بعد عماها بين الحق والباطل ، ولا بين الحسن والقبيح ، ولا بين النافع والضار ، وهو صريح بأن الذي يميز به كل ذلك هو العقل ، ومحله في القلب .
وقال تعالى : { يوم لا ينفع مالا ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم } ( الشعراء : 88-89) ، ولم يقل : بدماغ سليم .
وقال الله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } (البقرة : 7) ، ولم يقل : على أدمغتهم .
وقال تعالى : { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } (الكهف : 57) ، ومفهوم مخالفة الآية أنه لو لم يجعل الأكنة على قلوبهم لفقهوه بقلوبهم ، وذلك لأن محل العقل القلب كما ترى ، ولم يقل / إنا جعلنا على أدمغتهم أكنة أن يفقهوه .
وقال تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } (ق : 37) ، ولم يقل : لمن كان له دماغ .
وقال تعالى : { ثم قست قلوبهم من بعد ذلك } (البقرة : 74 ) ولم يقل / ثم قست أدمغتكم ، وكون القلب إذا قسا لم يطع صاحبه الله وإذا لان أطاع الله ، دليل على أن المميز الذي تراد به الطاعة والمعصية محله القلب كما ترى وهو العقل .
وقال تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } (الزمر : 22 ) .
وقال تعالى: { فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } ( الحديد : 16 ) ، ولم يقل : فويل للقاسية أدمغتهم ، ولم يقل فطال عليهم الأمد فقست أدمغتهم .
وقال تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه } ( الجاثية : 23) ، ولم يقل : ختم على سمعه ودماغه .
وقال تعالى : { واعلموا أن الله يحول وبين المرء وقلبه } ( الأنفال : 24) ، ولم يقل : ودماغه .
وقال تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } ( الفتح : 11 ) ، ولم يقل : ما ليس في أدمغتهم .
وقال تعالى : { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة } ( النحل : 22 ) ولم يقل : أدمغتهم منكرة .
وقال تعالى : ” حتى إذا فزع عن قلوبهم } (سبأ : 23 ) ، ولم يقل : إذا فزع أن أدمغتهم .
وقال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } ( محمد : 24 ) ، ولم يقل : أم على أدمغة أقفالها ، وانظر ما أصرح آية القتال هذه في أن التدبر وإدراك المعاني إنما هو بالقلب ، ولو جعل على القلب قفل لم يحصل الإدراك فتبين أن الدماغ ليس هو محل الإدراك كما ترى .
وقال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ( الصف : 5 ) ولم يقل : أزاغ الله أدمغتهم .
وقال تعالى : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } ( الرعد : 28 ) ، ولم يقل تطمئن الأدمغة .
وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } ( الأنفال : 2 ) ، ولم يقل : وجلت أدمغتهم ، والطمأنينة والخوف عند ذكر الله كلاهما إنما يحصل بالفهم والإدراك .
وقد صرحت الآية الكريمة المذكورة بأن محل ذلك القلب لا الدماغ ، وبين في آيات كثيرة أن الذي يدرك الخطر فيخاف منه هو القلب الذي هو محل العقل لا الدماغ ، كقوله تعالى : { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } ( الأحزاب : 10 ) ، وقوله تعالى : { قلوب يومئذ واجفة } ( النازعات : 8 ) ، وإن كان الخوف تظهر آثاره على الإنسان .
وقال تعالى : { أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم } ( الأعراف : 100 ) ، ولم يقل : نطبع على أدمغتهم .
وقال تعالى : { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا } ( الكهف : 14 ) وقال تعالى : { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ) (القصص : 10 ) ، والآيتان المذكورتان فيهما الدلالة على أن محل إدراك الخطر المسبب للخوف هو القلب كما ترى لا الدماغ .
والآيات الواردة في الطبع على القلوب متعددة :
قوله تعالى : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم } ( المنافقون : 3 ) ولم يقل : فطبع على أدمغتهم ، وكقوله تعالى : { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم } (التوبة : 93) ، ولم يقل : على أدمغتهم .
وقال تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ( النحل : 106 ) ، والطمأنينة بالإيمان إنما تحصل بإدراك فضل الإيمان ، وحسن نتائجه وعواقبه ، وقد صرح في هذه الآية بإسناد ذلك الاطمئنان إلى القلب الذي هو محل العقل الذي هو أداة النفس في الإدراك ، ولم يقل : ودماغه مطمئن بالإيمان .
وقال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } (الحجرات : 14 ) ولم يقل : في أدمغتكم .
وقال تعالى : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } (المجادلة : 22 ) ، فقوله تعالى : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، وقوله : كتب في قلوبهم الإيمان ، صريح بأن المحل الذي يدخله الإيمان في المؤمن ، وينتفي عنه دخوله في الكافر إنما هو القلب لا الدماغ ، وأساس الإيمان إيمان القلب ، لأن الجوارح كلها تبع له كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إن في الجسد مضغة إذا صلحا صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) . فظهر بذلك دلالة الآيتين المذكورتين على أن المصدر الأول للإيمان القلب ، فإذا آمن القلب آمنت الجوارح بفعل المأمورات وترك المنهيات ، لأن القلب أمير البدن وذلك يدل دلالة واضحة على أن القلب ما كان كذلك إلا لأنه محل العقل الذي به الإدراك والفهم كما ترى .
وقال تعالى : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } (البقرة : 283) ، فأسند الإثم بكتم الشهادة للقلب ، ولم يسنده للدماغ ، وذلك يدل على أن كتم الشهادة الذي هو سبب الإثم واقع عن عمد ، وأن محل ذلك العمد القلب ، وذلك لأنه محل العقل الذي يحصل به الإدراك ، وقصد المعصية كما ترى .
وقال تعالى في حفصة وعائشة رضي الله عنهما : { إن تتوبا إلى الله فقد صفت قلوبكما } (التحريم : 4 ) ، أي : مالت قلوبكما إلى أمر تعلمان أنه صلى الله عليه وسلم يكرهه ، سواء قلنا : إنه تحريم شرب العسل الذي كانت تسقيه إياه إحدى نسائه ، أو قلنا : إنه تحريم جاريته ماريه ، فقوله : صغت قلوبكما ، أي : مالت . يدل على أن الإدراك وقصد الميل المذكور محله القلب ، ولو كان الدماغ لقال : فقد صغت أدمغتكما كما ترى . ولما ذكر كل من اليهود والمشركين أن محل عقولهم هو قلوبهم قررهم الله على ذلك ، لأن كون القلب محل العقل حق ، وأبطل دعواهم من جهة أخرى ، وذلك يدل بإيضاح على أن محل العقل القلب .
أما اليهود لعنهم الله فقد ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى : { وقولهم قلوبنا غلف } ، فقال تعالى { بل طبع الله عليها بكفرهم } (النساء : 155 ) ، فقولهم : قلوبنا غلف بسكون اللام يعنون : أن عليها غلافا ، أي : غشاء يمنعها من فهم ما تقول ، فقررهم الله على أن قلوبهم هي محل الفهم والإدراك ، لأنها محل العقل ، ولكن كذبهم في ادعائهم أن عليها غلافا مانعا لها من الفهم ، فقال – على سبيل الإضراب الإبطالي – : { بل طبع الله عليها بكفرهم } الآية .
أما عن قراءة ابن عباس : ” قلوبنا غلف ” بضمتين ، يعنون : أن قلوبهم كأنها غلاف محشو بالعلوم والمعارف ، فلا حاجة لنا إلى ما تدعوننا إليه ، وذلك يدل على علمهم بأنه محل العلم والفهم القلوب لا الأدمغة .
وأما المشركون فقد ذكر الله عنهم في قوله تعالى : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا غليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } (فصلت : 5 ) ، فكانوا عالمين بأن محل العقل القلب ، ولذا قالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، ولم يقولوا : أدمغتنا في أكنة مما تدعونا إليه ، والله لم يكذبهم في ذلك ، ولكنه وبخهم على كفرهم بقوله تعالى : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } (فصلت : 9) .
وهذه الآيات التي أطلق فيها القلب مردا به العقل ، لأن القلب هو محله – أوضح الله المراد منها بقوله : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } (الحج : 46) فصرح بأنهم يعقلون بالقلوب ، وهو يدل على أن محل العقل القلب دلالة لا مطعن فيها كما ترى .
وقال تعالى : { فإن يشإ الله يختم على قلبك } (الشورى : 24) ، ولم يقل : يختم على دماغك .
وقال تعالى : { قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به } (الأنعام : 46) ، ولم يقل : وختم على أدمغتكم .
وقال تعالى في المحل : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون } (النحل : 108 ) وقال تعالى : { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } (الحجرات : 3 ) ، ولم يقل : امتحن أدمغتهم .
وقال تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } (الحجرات : 7 ) ، والآيات بمثل هذا كثيرة ولنكتف منها بما ذكرنا خشية الإطالة المملة .
وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرنا الدالة على أن محل العقل القلب فهي كثيرة جدا .
كالحديث الصحيح الذي ذكر ، والذي فيه ” ألا وهي القلب ” ، ولم يقل فيه : ألا وهي الدماغ ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : ” يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ” ولم يقل : يا مقلب الأدمغة ثبت دماغي على دينك ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : ” قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ” ، وهو من أحاديث الصفات ، ولم يقل : دماغ المؤمن .. الخ .
والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا ، فلا نطل الكلام بها .
وقد تبين مما ذكرنا أن خالق العقل وواهبه للإنسان بين في آيات قرآنية كثيرة أن محل العقل القلب ، وخالقه أعلم بمكانه من كفرة الفلاسفة ، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأيت .
أما عامة الفلاسفة – إلا القليل منهم النادر – فإنهم يقولون : إن محل العقل الدماغ ، وشذت طائفة من متأخريهم فزعموا : أن العقل ليس له مركز مكاني في الإنسان أصلا ، وإنما زماني محض لا مكان له ، وقول هؤلاء أظهر سقوطا من أن نشتغل بالكلام عليه .
ومن أشهر الأدلة التي يستدل بها القائلون : إن محل العقل الدماغ هو أن كل شيء يؤثر في الدماغ في العقل .
ونحن لا ننكر أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ ، ولكن نقول بموجبه ، فنقول :
سلمنا أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ ، ولكن لا نسلم أن ذلك يستلزم أن محله الدماغ ، وكم من عضو من أعضاء الإنسان خارج عن الدماغ بلا نزاع ، وهو يتأثر بتأثر الدماغ كما هو معلوم ، وكم من شلل في بعض أعضاء الإنسان ناشئ عن اختلال واقع في الدماغ ، فالعقل خارج عن الدماغ ، ولكن سلامته مشروطة بسلامة الدماغ كالأعضاء التي تحتل باختلال الدماغ ، فإنها خارجية عنه مع أن سلامتها مشروطة بسلامة الدماغ كما هو معروف .
وإظهار حجة هؤلاء والرد عليها على الوجه المعروف في آداب البحث والمناظرة أن حاصل دليلهم :
أنهم يستدلون بقياس منطقي من الشرطي المتصل المركب من شريطة متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي ، فينتج لهم في زعمهم دعواهم المذكورة التي هي : نقيض المقدم ، وصورته :
أنهم يقولون : لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر على الدماغ ، لكنه يتأثر بكل مؤثر على الدماغ ، ينتج : العقل في الدماغ .
وهذا الاستدلال مردود بالنقض التفصيلي الذي هو المنع ، وذلك بمنع كبراه التي هي شريطته فنقول : المانع منع قولك ” لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر في الدماغ ” بل هو خارج عن الدماغ مع أنه يتأثر بكل مؤثر على الدماغ كغيره من الأعضاء التي تتأثر بتأثر الدماغ ، فالربط بين التالي والمقدم غير صحيح ، والمحل الذي يتوارد عليه الصدق في الشرطية إنما هو الربط بين مقدمها وتاليها ، فإن لم يكن الربط صحيحا ، كانت كاذبة ، والربط في قضيتهم المذكورة كاذب ، فظهر بطلان دعواهم .
وهناك طائفة ثالثة أرادت أن تجمع بين القولين فقالت : إن ما دل عليه الوحي من كون العقل هو القلب صحيح ، وما يقوله الفلاسفة ومن وافقهم من أن محله الدماغ صحيح أيضا ، فلا منافاة بين القولين .
قالوا : ووجه الجمع أن العقل في القلب كما هو في القرآن والسنة ، ولكن نوره يتصاعد من القلب فيتصل بالدماغ ، وبواسطة اتصاله بالدماغ يصدق عليه أنه في الدماغ من غير منافاة لكون محله هو القلب .
قالوا : وبهذا يندفع التعارض بين النظر العقلي الذي زعمه الفلاسفة وبين الوحي .
واستدل بعضهم لهذا الجمع بالاستقراء غير التام ، وهو المعروف في الأصول بإلحاق الفرد بالغالب ، وهو حجة ظنية عند جماعة من الأصوليين ، وإليه أشار صاحب مراقي السعود في كتاب الاستدلال في الكلام على أقسام الاستقراء بقوله :
وهو لدى البعض إلى الظن انتسب يسمى لحوق الفرد بالذي غلب
ومعلوم أن الاستقراء : هو تتبع الأفراد حتى يغلب على ظنه ( أي الناظر ) أن ذلك الحكم مطرد في جميع الأفراد ، وإيضاح هذا : أن القائلين بالجمع المذكور بين الوحي وأهوال أهل الفلسفة في محل العقل ، قالت جماعة منهم : دليلنا على هذا الجمع الاستقراء غير التام .
وذلك أنهم قالوا : تتبعنا أفراد الإنسان الطويل العنق طولا مفرطا زائدا على العهود زيادة بينة ، فوجدنا كل طويل العنق طولا مفرطا يلزمه بعد المسافة بين طريق نور العقل الكائن في القلب وبين المتصاعد منه إلى الدماغ ، وبعد المسافة بين طرفيه قد يؤدي إلى عدم تماسكه واجتماعه فيظهر فيه النقص .
وهذا الدليل – كما ترى – ليس فيه مقنع ، وإن كان يشاهد مثله في الخارج كثيرا .
فتحصل من هذا أ، الذي يقول : العقل في الدماغ وحده وليس في القلب منه شيء أن قوله في غاية البطلان ، لأنه مكذب لآيات وأحاديث كثيرة ذكرنا بعضه ، وهذا القول لا يتجرأ عليه مسلم إلا إن كان لا يؤمن بكتاب الله ، ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو إن كان كذلك ليس مسلم .
ومن قاله أنه في القلب وحده وليس في الدماغ منه شيء ، فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقم دليل جازم قاطع من نقل ولا عقل على خلافه .
ومن جمع بين القولين فقوله جائز عقلا ، ولا تكذيب فيه للكتاب ولا للسنة ، ولكنه يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ، ولا دليل عليه من النقل ، فإن قام عليه دليل من عقل ، أو استقراء محتج به فلا مانع من قبوله ، والعلم عند الله تعالى ، وهذا ما يتعلق بالمسألة الأولى .
وكل نظر عقلي صحيح يستحيل أن يخالف الوحي الصريح ، وسنذكر طرفا من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك ، وطرفا من الأحاديث النبوية ، ثم نبين حجة من خالف الوحي من الفلاسفة ومن تبعهم ، ونوضح الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى .
واعلم أولا : أنه يغلب في الكتاب والسنة إطلاقالقلب وإرادة العقل وذلك أسلوب عربي معروف ، لأن من أساليب اللغة العربية إطلاق المحل وإرادة الحال فيه كعكسه ، والقائلون بالمجاز يسمون ذلك الأسلوب العربي مجازا مرسلا ، ومن علاقات المجاز المرسل عندهم المحلية والحالية كإطلاق القلب وإرادة العقل ، لأن القلب محل العقل ، وكإطلاق النهر الذي هو الشق في الأرض على الماء الجاري فيه كما هو معلوم في محله .
وهذه بعض نصوص الوحيين :
قال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها } (الأعراف : 179) فعابهم الله بأنهم لا يفقهون بقلوبهم ، والفقه الذي هو الفهم لا يكون إلا بالعقل ، فدل ذلك على أن القلب محل العقل ، ولو كان الأمر كما زعم الفلاسفة لقاتل : لهم أدمغة لا يفقهون بها .
وقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } (الحج 46) ، ولم يقل فتكون لهم أدمغة يعقلون بها ، ولم يقل : ولكن تعمى الأدمغة التي في الرؤوس . كما ترى ، فقد صرح في آية الحج هذه بأن القلوب هي التي يعقل بها ، وما ذاك إلا لأنها محل العقل كما ترى ، ثم أكد ذلك تأكيدا لا يترك شبهة ولا لبسا فقال : { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } ، فتأمل قوله : { التي في الصدور } تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح ، ومعناه : أن القلوب التي في الصدور هي التي تعمى إذا سلب الله منها نور العقل فلا تميز بعد عماها بين الحق والباطل ، ولا بين الحسن والقبيح ، ولا بين النافع والضار ، وهو صريح بأن الذي يميز به كل ذلك هو العقل ، ومحله في القلب .
وقال تعالى : { يوم لا ينفع مالا ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم } ( الشعراء : 88-89) ، ولم يقل : بدماغ سليم .
وقال الله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } (البقرة : 7) ، ولم يقل : على أدمغتهم .
وقال تعالى : { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } (الكهف : 57) ، ومفهوم مخالفة الآية أنه لو لم يجعل الأكنة على قلوبهم لفقهوه بقلوبهم ، وذلك لأن محل العقل القلب كما ترى ، ولم يقل / إنا جعلنا على أدمغتهم أكنة أن يفقهوه .
وقال تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } (ق : 37) ، ولم يقل : لمن كان له دماغ .
وقال تعالى : { ثم قست قلوبهم من بعد ذلك } (البقرة : 74 ) ولم يقل / ثم قست أدمغتكم ، وكون القلب إذا قسا لم يطع صاحبه الله وإذا لان أطاع الله ، دليل على أن المميز الذي تراد به الطاعة والمعصية محله القلب كما ترى وهو العقل .
وقال تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } (الزمر : 22 ) .
وقال تعالى: { فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } ( الحديد : 16 ) ، ولم يقل : فويل للقاسية أدمغتهم ، ولم يقل فطال عليهم الأمد فقست أدمغتهم .
وقال تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه } ( الجاثية : 23) ، ولم يقل : ختم على سمعه ودماغه .
وقال تعالى : { واعلموا أن الله يحول وبين المرء وقلبه } ( الأنفال : 24) ، ولم يقل : ودماغه .
وقال تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } ( الفتح : 11 ) ، ولم يقل : ما ليس في أدمغتهم .
وقال تعالى : { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة } ( النحل : 22 ) ولم يقل : أدمغتهم منكرة .
وقال تعالى : ” حتى إذا فزع عن قلوبهم } (سبأ : 23 ) ، ولم يقل : إذا فزع أن أدمغتهم .
وقال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } ( محمد : 24 ) ، ولم يقل : أم على أدمغة أقفالها ، وانظر ما أصرح آية القتال هذه في أن التدبر وإدراك المعاني إنما هو بالقلب ، ولو جعل على القلب قفل لم يحصل الإدراك فتبين أن الدماغ ليس هو محل الإدراك كما ترى .
وقال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ( الصف : 5 ) ولم يقل : أزاغ الله أدمغتهم .
وقال تعالى : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } ( الرعد : 28 ) ، ولم يقل تطمئن الأدمغة .
وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } ( الأنفال : 2 ) ، ولم يقل : وجلت أدمغتهم ، والطمأنينة والخوف عند ذكر الله كلاهما إنما يحصل بالفهم والإدراك .
وقد صرحت الآية الكريمة المذكورة بأن محل ذلك القلب لا الدماغ ، وبين في آيات كثيرة أن الذي يدرك الخطر فيخاف منه هو القلب الذي هو محل العقل لا الدماغ ، كقوله تعالى : { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } ( الأحزاب : 10 ) ، وقوله تعالى : { قلوب يومئذ واجفة } ( النازعات : 8 ) ، وإن كان الخوف تظهر آثاره على الإنسان .
وقال تعالى : { أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم } ( الأعراف : 100 ) ، ولم يقل : نطبع على أدمغتهم .
وقال تعالى : { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا } ( الكهف : 14 ) وقال تعالى : { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ) (القصص : 10 ) ، والآيتان المذكورتان فيهما الدلالة على أن محل إدراك الخطر المسبب للخوف هو القلب كما ترى لا الدماغ .
والآيات الواردة في الطبع على القلوب متعددة :
قوله تعالى : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم } ( المنافقون : 3 ) ولم يقل : فطبع على أدمغتهم ، وكقوله تعالى : { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم } (التوبة : 93) ، ولم يقل : على أدمغتهم .
وقال تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ( النحل : 106 ) ، والطمأنينة بالإيمان إنما تحصل بإدراك فضل الإيمان ، وحسن نتائجه وعواقبه ، وقد صرح في هذه الآية بإسناد ذلك الاطمئنان إلى القلب الذي هو محل العقل الذي هو أداة النفس في الإدراك ، ولم يقل : ودماغه مطمئن بالإيمان .
وقال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } (الحجرات : 14 ) ولم يقل : في أدمغتكم .
وقال تعالى : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } (المجادلة : 22 ) ، فقوله تعالى : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، وقوله : كتب في قلوبهم الإيمان ، صريح بأن المحل الذي يدخله الإيمان في المؤمن ، وينتفي عنه دخوله في الكافر إنما هو القلب لا الدماغ ، وأساس الإيمان إيمان القلب ، لأن الجوارح كلها تبع له كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إن في الجسد مضغة إذا صلحا صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) . فظهر بذلك دلالة الآيتين المذكورتين على أن المصدر الأول للإيمان القلب ، فإذا آمن القلب آمنت الجوارح بفعل المأمورات وترك المنهيات ، لأن القلب أمير البدن وذلك يدل دلالة واضحة على أن القلب ما كان كذلك إلا لأنه محل العقل الذي به الإدراك والفهم كما ترى .
وقال تعالى : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } (البقرة : 283) ، فأسند الإثم بكتم الشهادة للقلب ، ولم يسنده للدماغ ، وذلك يدل على أن كتم الشهادة الذي هو سبب الإثم واقع عن عمد ، وأن محل ذلك العمد القلب ، وذلك لأنه محل العقل الذي يحصل به الإدراك ، وقصد المعصية كما ترى .
وقال تعالى في حفصة وعائشة رضي الله عنهما : { إن تتوبا إلى الله فقد صفت قلوبكما } (التحريم : 4 ) ، أي : مالت قلوبكما إلى أمر تعلمان أنه صلى الله عليه وسلم يكرهه ، سواء قلنا : إنه تحريم شرب العسل الذي كانت تسقيه إياه إحدى نسائه ، أو قلنا : إنه تحريم جاريته ماريه ، فقوله : صغت قلوبكما ، أي : مالت . يدل على أن الإدراك وقصد الميل المذكور محله القلب ، ولو كان الدماغ لقال : فقد صغت أدمغتكما كما ترى . ولما ذكر كل من اليهود والمشركين أن محل عقولهم هو قلوبهم قررهم الله على ذلك ، لأن كون القلب محل العقل حق ، وأبطل دعواهم من جهة أخرى ، وذلك يدل بإيضاح على أن محل العقل القلب .
أما اليهود لعنهم الله فقد ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى : { وقولهم قلوبنا غلف } ، فقال تعالى { بل طبع الله عليها بكفرهم } (النساء : 155 ) ، فقولهم : قلوبنا غلف بسكون اللام يعنون : أن عليها غلافا ، أي : غشاء يمنعها من فهم ما تقول ، فقررهم الله على أن قلوبهم هي محل الفهم والإدراك ، لأنها محل العقل ، ولكن كذبهم في ادعائهم أن عليها غلافا مانعا لها من الفهم ، فقال – على سبيل الإضراب الإبطالي – : { بل طبع الله عليها بكفرهم } الآية .
أما عن قراءة ابن عباس : ” قلوبنا غلف ” بضمتين ، يعنون : أن قلوبهم كأنها غلاف محشو بالعلوم والمعارف ، فلا حاجة لنا إلى ما تدعوننا إليه ، وذلك يدل على علمهم بأنه محل العلم والفهم القلوب لا الأدمغة .
وأما المشركون فقد ذكر الله عنهم في قوله تعالى : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا غليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } (فصلت : 5 ) ، فكانوا عالمين بأن محل العقل القلب ، ولذا قالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، ولم يقولوا : أدمغتنا في أكنة مما تدعونا إليه ، والله لم يكذبهم في ذلك ، ولكنه وبخهم على كفرهم بقوله تعالى : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } (فصلت : 9) .
وهذه الآيات التي أطلق فيها القلب مردا به العقل ، لأن القلب هو محله – أوضح الله المراد منها بقوله : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } (الحج : 46) فصرح بأنهم يعقلون بالقلوب ، وهو يدل على أن محل العقل القلب دلالة لا مطعن فيها كما ترى .
وقال تعالى : { فإن يشإ الله يختم على قلبك } (الشورى : 24) ، ولم يقل : يختم على دماغك .
وقال تعالى : { قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به } (الأنعام : 46) ، ولم يقل : وختم على أدمغتكم .
وقال تعالى في المحل : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون } (النحل : 108 ) وقال تعالى : { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } (الحجرات : 3 ) ، ولم يقل : امتحن أدمغتهم .
وقال تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } (الحجرات : 7 ) ، والآيات بمثل هذا كثيرة ولنكتف منها بما ذكرنا خشية الإطالة المملة .
وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرنا الدالة على أن محل العقل القلب فهي كثيرة جدا .
كالحديث الصحيح الذي ذكر ، والذي فيه ” ألا وهي القلب ” ، ولم يقل فيه : ألا وهي الدماغ ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : ” يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ” ولم يقل : يا مقلب الأدمغة ثبت دماغي على دينك ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : ” قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ” ، وهو من أحاديث الصفات ، ولم يقل : دماغ المؤمن .. الخ .
والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا ، فلا نطل الكلام بها .
وقد تبين مما ذكرنا أن خالق العقل وواهبه للإنسان بين في آيات قرآنية كثيرة أن محل العقل القلب ، وخالقه أعلم بمكانه من كفرة الفلاسفة ، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأيت .
أما عامة الفلاسفة – إلا القليل منهم النادر – فإنهم يقولون : إن محل العقل الدماغ ، وشذت طائفة من متأخريهم فزعموا : أن العقل ليس له مركز مكاني في الإنسان أصلا ، وإنما زماني محض لا مكان له ، وقول هؤلاء أظهر سقوطا من أن نشتغل بالكلام عليه .
ومن أشهر الأدلة التي يستدل بها القائلون : إن محل العقل الدماغ هو أن كل شيء يؤثر في الدماغ في العقل .
ونحن لا ننكر أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ ، ولكن نقول بموجبه ، فنقول :
سلمنا أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ ، ولكن لا نسلم أن ذلك يستلزم أن محله الدماغ ، وكم من عضو من أعضاء الإنسان خارج عن الدماغ بلا نزاع ، وهو يتأثر بتأثر الدماغ كما هو معلوم ، وكم من شلل في بعض أعضاء الإنسان ناشئ عن اختلال واقع في الدماغ ، فالعقل خارج عن الدماغ ، ولكن سلامته مشروطة بسلامة الدماغ كالأعضاء التي تحتل باختلال الدماغ ، فإنها خارجية عنه مع أن سلامتها مشروطة بسلامة الدماغ كما هو معروف .
وإظهار حجة هؤلاء والرد عليها على الوجه المعروف في آداب البحث والمناظرة أن حاصل دليلهم :
أنهم يستدلون بقياس منطقي من الشرطي المتصل المركب من شريطة متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي ، فينتج لهم في زعمهم دعواهم المذكورة التي هي : نقيض المقدم ، وصورته :
أنهم يقولون : لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر على الدماغ ، لكنه يتأثر بكل مؤثر على الدماغ ، ينتج : العقل في الدماغ .
وهذا الاستدلال مردود بالنقض التفصيلي الذي هو المنع ، وذلك بمنع كبراه التي هي شريطته فنقول : المانع منع قولك ” لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر في الدماغ ” بل هو خارج عن الدماغ مع أنه يتأثر بكل مؤثر على الدماغ كغيره من الأعضاء التي تتأثر بتأثر الدماغ ، فالربط بين التالي والمقدم غير صحيح ، والمحل الذي يتوارد عليه الصدق في الشرطية إنما هو الربط بين مقدمها وتاليها ، فإن لم يكن الربط صحيحا ، كانت كاذبة ، والربط في قضيتهم المذكورة كاذب ، فظهر بطلان دعواهم .
وهناك طائفة ثالثة أرادت أن تجمع بين القولين فقالت : إن ما دل عليه الوحي من كون العقل هو القلب صحيح ، وما يقوله الفلاسفة ومن وافقهم من أن محله الدماغ صحيح أيضا ، فلا منافاة بين القولين .
قالوا : ووجه الجمع أن العقل في القلب كما هو في القرآن والسنة ، ولكن نوره يتصاعد من القلب فيتصل بالدماغ ، وبواسطة اتصاله بالدماغ يصدق عليه أنه في الدماغ من غير منافاة لكون محله هو القلب .
قالوا : وبهذا يندفع التعارض بين النظر العقلي الذي زعمه الفلاسفة وبين الوحي .
واستدل بعضهم لهذا الجمع بالاستقراء غير التام ، وهو المعروف في الأصول بإلحاق الفرد بالغالب ، وهو حجة ظنية عند جماعة من الأصوليين ، وإليه أشار صاحب مراقي السعود في كتاب الاستدلال في الكلام على أقسام الاستقراء بقوله :
وهو لدى البعض إلى الظن انتسب يسمى لحوق الفرد بالذي غلب
ومعلوم أن الاستقراء : هو تتبع الأفراد حتى يغلب على ظنه ( أي الناظر ) أن ذلك الحكم مطرد في جميع الأفراد ، وإيضاح هذا : أن القائلين بالجمع المذكور بين الوحي وأهوال أهل الفلسفة في محل العقل ، قالت جماعة منهم : دليلنا على هذا الجمع الاستقراء غير التام .
وذلك أنهم قالوا : تتبعنا أفراد الإنسان الطويل العنق طولا مفرطا زائدا على العهود زيادة بينة ، فوجدنا كل طويل العنق طولا مفرطا يلزمه بعد المسافة بين طريق نور العقل الكائن في القلب وبين المتصاعد منه إلى الدماغ ، وبعد المسافة بين طرفيه قد يؤدي إلى عدم تماسكه واجتماعه فيظهر فيه النقص .
وهذا الدليل – كما ترى – ليس فيه مقنع ، وإن كان يشاهد مثله في الخارج كثيرا .
فتحصل من هذا أ، الذي يقول : العقل في الدماغ وحده وليس في القلب منه شيء أن قوله في غاية البطلان ، لأنه مكذب لآيات وأحاديث كثيرة ذكرنا بعضه ، وهذا القول لا يتجرأ عليه مسلم إلا إن كان لا يؤمن بكتاب الله ، ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو إن كان كذلك ليس مسلم .
ومن قاله أنه في القلب وحده وليس في الدماغ منه شيء ، فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يقم دليل جازم قاطع من نقل ولا عقل على خلافه .
ومن جمع بين القولين فقوله جائز عقلا ، ولا تكذيب فيه للكتاب ولا للسنة ، ولكنه يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ، ولا دليل عليه من النقل ، فإن قام عليه دليل من عقل ، أو استقراء محتج به فلا مانع من قبوله ، والعلم عند الله تعالى ، وهذا ما يتعلق بالمسألة الأولى .
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.