حامد البلادي
========
كنت اليوم واقفا أمام الغرفة التي يرقد فيها أبي (شفاه الله وأجزل أجره وأحسن خاتمته) في مستشفى عسير، وفجأة تقدم نحوي شاب صغير لم يتجاوز العشرين من عمره، وسألني: أنت فلان؟ قلت نعم. فتلطف ببعض المجاملات وقابلته بمثلها ، ثم طلبت منه أن يعرفني بنفسه : فقال أنا حامد البلادي ، طالب في كلية الشريعة بجامعة الملك خالد ، المستوى الثالث .
=========
انتابني شعور غريب وأنا أنظر في قسمات وجهه المشع بنور الهداية والإيمان ، وسرحت بعيدا وأن أستمع إلى لهجته التهامية الآخذة الساحرة ، واجتاحني انجذاب جامح إليه وفضول كاسح للتعرف عليه، فدعوته لزيارة والدي فدخل، ودعا له وقبل رأسه، وجلس، فبادرته بالسؤال: أنا واثق أنك شاب غير عادي وأسألك بالله أن تحدثني عن نفسك. فقال بكل أدب : أستغفر الله ، وسكت ، فكررت المسألة عليه فأجاب :
==========
أنا حامد البلادي : أحفظ كتاب الله تعالى كاملا منذ صغري، وأحفظ خمسة عشر ألف حديث عن ظهر قلب، وحصلت على المركز الأول في مسابقة السنة على مستوى المملكة أربع سنوات متتالية .
==========
– من أين أنت؟
– أنا من الحرجة من تهامة قحطان، وكنت أصلي بالناس في الحرجة، ثم دعاني أحد وجهاء السراة حين سمع قراءتي للصلاة بالناس في رمضان في مسجد عمره على نية والده، فصليت أربع سنوات هناك، ثم انتقلت للدراسة في جامعة الملك خالد في كلية الشريعة في جامعة الملك خالد .
===========
– حدثني عن حفظك للكتاب والسنة؟
– (أمي) أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولكنها كانت منذ صغري تعظني مواعظ قرأتها فيما بعد لكبار الوعاظ كسفيان الثوري والحسن البصري ، كانت تجبرني على الذهاب لحلقة التحفيظ، وفي أوقات المطر كانت تذهب معي خوفا علي من الوادي، وكنا أحيانا ننتظر على حافة الوادي إلى الساعة الحادية عشرة ليلا لنستطيع العبور .
============
كانت أمي تقول :
– يا حامد لا يمرن عليك يوم إلا واستغفرت الله ألف مرة فإن هذا يعينك على الحفظ ويفتح لك أبواب الرزق .
– يا حامد إن نسيت شيئا مما حفظت فراجع نفسك فإنك قد عصيت الله .
– يا حامد إن شعرت بخوف من الخلق فراجع نفسك فإنك قد عصيت الخالق .
=============
وحين تعلمت الكتابة أخذت فحما وكتبت وصايا أمي على جدار غرفتي في بيتنا المتواضع لأقرأها كل يوم، وقد ثبت لي أن أمي (الأمية) قد كشفت لي سر النجاح والفلاح والسعادة وسعة الرزق (إنه الاستغفار) ، والله لقد تزوجت وما دفع أبي في زواجي هللة ، ووالله لقد بنيت لي بيتا (دورين وملحق) وأنا الآن أشطب، ووالله إن الله يرزقني من حيث لا أحتسب.
=============
هل تخطب الجمعة؟
أنا أحفظ كثيرا من المتون وأخطب ولله الحمد مرتجلا .
=============
وهنا زاد فضولي وأحببت أن أعرف دقة حفظه للمتون، ولأني قرأت في كتب الفقه وأصوله كثيرا في أثناء عملي في رسالة الدكتوراه، فاتشته في بعض مسائل الفقه فوجدته يجيب من كتب ابن قدامة بالنص ويذكر الجزء ورقم الصفحة !!! وهنا قلت لنفسي بكل هدوء (على شحم يا أبو الطيب) .
=============
وسريعا هربت إلى الأدب : هل تقرأ في كتب الأدب؟ فوجدته يقول: لا غنى لطالب العلم والخطيب عن الأدب، ثم بدأ في سرد طرائف أدبية عجيبة، ويسرد لي أشعارا عظيمة يحفظها، منسوبة إلى مواضعها من مطولات الأدب، فقلت ثانية وبكل خفوت واستسلام (على شحم/ على شحم/ على شحم يا أبو الطيب) .
=============
بعد تأمل طويل في قسماته، وقراءة متأنية لعينيه، عرفت أني أمام (نابغة/ عبقري/ ثروة/ وحيد دهره/ فريد عصره ……) قل ما شئت (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) . ودعاني الفضول ثانية إلى سماع تلاوته لكتاب الله، فقلت له: في نهاية الزيارة أريد أن ترقي والدي، فرحب بذلك .
وبعد كل هذا الذهول سألته: عسى ما به خلاف؟ فأخبرني أن أخاه مريض ، فصحبته لزيارة أخيه .
==============
الساعة السادسة والنصف مساء ، وبقي عن نهاية الزيارة ساعة ونصف، كانت أطول ساعة ونصف في حياتي، ولاحظ من زار والدي انشغالي وشرود ذهني؛ لأني كتاب مفتوح، وهذه حال كل شاعر ، وأخيرا جاءت الثامنة وغادر الزوار واتجهت إلى غرفة أخيه ودعوته لرقية والدي، وأغلقت الباب، وجلست قريبا منه ، فتدفق بقراءة ماذا أقول؟ وبصوت ماذا أقول؟ وبخشوع ماذا أقول؟
==============
(حامد البلادي) برأسه الحاسر، بصوته الساحر ، بمنطقه الجنوبي التهامي الآسر، بعلمه الوافر، بحفظه الباهر، بمظهره المتواضع الناضر ، الحمد لله الذي رزقني معرفته وصداقته ووالله ثم والله ثم والله لو أن لي قدرة على حمل هم الدنيا عنه لهيأت له سكنه ومأكله ومشربه ومركبه وكل شأن له، وفرغته لما هو فيه من خير عظيم ونهج قويم، وصراط مستقيم، فسحقا ثم سحقا ثم سحقا لثري لا يستثمر أمواله في اصطناع مثل هذا الرجل الأسطورة بحق، النابغ النابه بحق، الجميل الجليل بحق .
===============
بقلم الدكتور :/محمد العمري
أستاذ الأدب بجامعة الملك خالد
منقول من شبكة الفرشة
شاهد أيضاً
قصص الشفاء بعد طول عناء
هنا تجد تجميع لكل ما يصلني من قصص في الشفاء الذاتي بعد الله الشافي المعافي …
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.